Category Archives: نفحات من حياتي
نفحات من حياتي (2)
السلام عليكم و رحمة الله
ها قد عدت كما وعدت بالجزء الثاني من القصة.. أتمنى أن تستمتعوا بقراءتها ^^
الجزء الثاني:
“حنين.. منعطف في طريق القدر”
استيقظت على صوت رنين هاتفي النقال فحملته بتكاسل و نظرت إلى الشاشة لأجد رسالة واردة. كانت من جهاد يقول فيها: “استيقظي أيتها الكسولة، ستفوتك النزهة” ضحكت على رسالته، لكنني فكرت..
غريب أنه يحتفظ برقمي، ربما أعطته أمي إياه.. لا، من غير الممكن أن تفعل أمي هذا و هي التي تسعى أن تبعدني عنه دائما. هل من الممكن أنه يحتفظ به مذ أرسلت له قبل ثلاث سنوات أخبره عن زفاف أختي شهد؟ ممكن، فأنا أيضا أحتفظ برقمه من يومها و مع ذلك لم أجرؤ و لا مرّة على الاتصال به.
و ما الذي يجلبه إلى تفكيري الآن لا بد أن أنساه. أنا حتى لا أعرف إن كان يهتم لأمري أم لا. هه، ما هذه التفاهة التي أتفوّه بها؟ من غير المعقول أن يكنّ لي مشاعرا أو يهتم بي و هو لم يرني أو يسمع عني سوى مرّة أو مرّتين خلال سبع سنوات. جهاد ليس بطلا في رواية رومنسية لأخدع نفسي بفكرة مجنونة من هذا النوع.
نفضت كل هذه الأفكار من رأسي و نظرت إلى ساعة المنبه فوجدتها قد تجاوزت العاشرة. قمت فزعة من مكاني حين أدركت أنني متأخرة حقا عن موعد النزهة. ارتديت ملابسي على عجل و كلي خوف أن يكونوا قد ذهبوا و تركوني لوحدي. خرجت من غرفتي و توجهت نحو غرفة الجلوس حيث كانت سها جالسة تشاهد التلفاز و ما إن رأتني حتى قالت مبتسمة:
“استيقظت؟ هيا تناولي إفطارك لنذهب سويا”
سألت و أنا أنظر حولي:
“أين الآخرون؟”
“لقد سبقونا و بقيت أنا لأصحبك معي. لم ترغب أمي بإيقاظك باكرا، قالت أنك متعبة و لا بدّ”
ابتسمت و توجهت إلى غرفة الطعام فوجدت جهاد جالسا على أحد الكراسي المحيطة بالمائدة يقرأ مجلة اقتصادية، و ما إن رآني حتى ابتسم تلك الابتسامة الهادئة التي تعودت عليها منذ وصولي. كان يبدو وسيما جدا بذلك القميص الرمادي و البنطال الأسود اللذين زاد وجهه الأسمر رونقا.
“آه.. استيقظتِ أخيرا.. يبدو أن المدينة أثرت على سلوكك”
ضحكت و أنا أجلس على كرسي يقابله:
“بل الأرق هو من فعل.. لم أنم البارحة جيدا”
قطب حاجبيه و تساءل:
“مازلت على نفس عادتك إذن؟ لا تستطيعين النوم جيدا إن غيرتِ المكان؟”
ابتسم مردفا:
“لا عليك ستتعودين بعد ثلاثة أيام”
ابتسمت و أنا أشعر بسعادة بالغة لأنه لا يزال يتذكر عاداتي و طباعي.. تناولت إفطاري بصمت ثم قمت قائلة:
“حسنا، سأذهب الآن إلى اللقاء”
لوح لي بيده و قال:
“إلى اللقاء، و… أتمنى أن يأكلك دب أو نمر، أو أن تسقطي من على شجرة”
و ضحك مستفزا فأجبت و أنا أضحك:
“أصبحت غابتكم تنتج الدببة و النمور؟ محاولة جيدة…لا تخف، فأنا لم أنس كيف يعيش المرء في الريف”
توجهت نحو الباب ثم استدرت نحوه و أردفت مبتسمة بهدوء:
“لم تتغير أبدا، أليس كذلك؟”
رد لي الابتسامة:
“و لن أفعل”
_______________________
كانت التلال في حلة رائعة، ليست في مثل بهاء الربيع و لكن الصيف له لمسته الخاصة على هذه المنطقة البريّة. كنت أجلس مع أمي و خالتي نتبادل أطراف الحديث في سفح التل حين أتت إليّ التوأمان و قالتا وهما تسحبانني معهما:
“تعالي معنا أماني سنصعد إلى أعلى التل”
قمت معهما و أنا فرحة بالخلاص من حديث النساء الممل، كما أنني كنت أرغب في التوغل قليلا في الغابة، هتفت خالتي منبّهة:
“احذرن من الابتعاد كثيرا يا فتيات”
لوحت لها بيدي و قلت أطمئنها:
“لا تخافي خالتي.. أظننا نعرف المكان جيدا”
و صعدنا إلى أعلى التل حيث بدأت الفتاتان بالجري في كل مكان و هما تصرخان بفرح، أما أنا فقد رأيت شجيرة توت برّي فرحت أقطف منها الثميرات الناضجة و جلست على العشب منادية الفتاتين لتأكلا معي.
اغتنمت فرصة جلوسنا لوحدنا و تجاوزت صمتي و تجاهلي كل هذه السنوات و سألت:
“أين يعمل جهاد؟”
أجابتني سها و هي تأكل حبة توت:
“ممثل شركة تجارية في الخارج”
عارضت مها مجيبة:
“كان ذلك قبل عامين سها.. هو الآن رئيس قسم الحسابات في تلك الشركة، أنسيت؟”
هزّت رأسها نفيا و تابعت بطريقة تدل على الاستياء:
“أنت خارجة عن نطاق الأحداث تماما أختي”
سألتُ مرّة أخرى:
“إذن هو في الخارج منذ عامين.. ألا يحضر إلى البيت كثيرا؟”
أجابت مها:
“مرة أو مرتين كل أربع أشهر.. نشتاق إليه كثيرا”
أضافت سها:
“إلا هذه المرة.. فقد جاء الشهر الماضي من أجل العمل ثم ذهب، وعاد مجددا قبل يومين في إجازة”
عقبت مها:
“هذا صحيح.. هو لم يفعل هذا من قبل.. لم يكن ينوِ العودة هذا الشهر إلا عندما…”
سألتها بلهفة:
“ماذا؟ إلا عند ماذا؟”
ابتسمت الفتاتان بمكر و أجابتا معا:
“إلا عندما سمعنا نتكلم عن مجيئك لقضاء العطلة عندنا”
ارتجفت أوصالي لما سمعته لكنني حاولت إخفاء تأثري و ضحكت بارتباك كما أفعل عادة و قلت:
“أنتما تهذيان”
ضحكتا على ارتباكي و وجهي الذي صار أحمر دون أدنى شك، و مع أنني تخوّفت كثيرا من شدة ملاحظة الفتاتين رغم صغر سنهما إلا أنني خاطرت بإلقاء سؤال آخر:
“إذن.. عامان في الغربة.. أليست له خطيبة، صديقة؟ اممم لا أدري، شيء من هذا القبيل؟”
نظرت الفتاتان إلى بعضهما البعض و عادتا إلى النظر إلي بطريقتهما الماكرة و قالت مها:
“لا، لا شيء من هذا القبيل.. ليس في الخارج على الأقل”
وقعت جملتها الأخيرة من نفسي موقع الألم من الجرح و نظرت متسائلة فقالت سها:
“نعتقد أنه يحب فتاة من هنا.. فتاة يعرفها منذ مدة”
ازدادت تساؤلاتي مع كل حرف تنطق به هاتان الفتاتان و صرت خائفة مما قد أسمعه. حتما لديه فتاة أخرى يحبها، ما الذي علــّقني به إذن؟ لماذا سمحت لنفسي بالانجراف خلف عواطف دفنتها لسنوات خلال يوم واحد فقط؟ لا يجب عليّ أن أفكر به أكثر مما فعلت، عليّ إيجاد حل بسرعة، خاصة و إن كنت سأقضي معه العطلة تحت السقف نفسه، يجب أن ألفق حجة لأمي حتى أعود إلى البيت مهما كان. لم أفكر ولا لهنيهة أن الفتاة قد تكون أنا لأن هذا مستحيل، المنطق السليم يقول أن هذا مستحيل و غير ممكن، ومهما كانت تلميحات الفتاتين تزرع الأمل في نفسي إلا أن تصديقها و التعلق بها ضرب من الجنون. لكن من؟ من هي الفتاة التي استطاعت الاستحواذ على جهاد لدرجة أنه لم ينظر إلى فتيات الخارج؟ من التي استطاعت جعله رجلا بعدما كان طفلا مشاكسا؟
أعادني صوت سها إلى عالم الواقع حين قالت:
“أنت تحبين أخي، أليس كذلك أماني؟”
ارتبكت و لم أعرف بم أجيب فتابعت مها:
“نعلم أنك تحبينه.. ذلك واضح عليك و لا يمكنك إخفاؤه. طريقة نظرك إليه، كلامك معه أو عنه، ارتجافك حين ذكر اسمه، كل هذا يدل على أنك تكنين له مشاعر يا أماني.. أخبرينا، نحن نحبك أنتِ و نعدك أننا سنساعدك”
“لقد جننتما حتما”
قلت بابتسامة متقنة في محاولة جادة للتملص من كلامهما. حاولت إخفاء ارتجافي و قمت من مكاني و أنا أقول:
“أنا ذاهبة لأجمع المزيد من التوت.. سآخذ بعضه لجهاد فهو يحبه كثيرا”
آه، يالي من حمقاء.. لم قلت ذلك؟ ستتأكد شكوك هاتين الصغيرتين الآن. و بالفعل سمعتهما تضحكان خلفي و تقولان:
“أرأيت؟”
مشيت مبتعدة نحو شجيرات التوت و اضطرابي يفوق التصوّر، يا لهاتين الفتاتين، لديهما ملاحظات حادة تفوق سنهما، إنهما فضوليتان و دقيقتا التصور و الاستنتاج، ستكونان صحفيتين رائعتين في المستقبل.
استمررت بالمشي و أنا أفكر فيما قالتاه لي عن جهاد. ترى هل يمكن أن تكون له حبيبة في مكان ما؟ هل يحبها؟ هل من الممكن أنه سيتزوجها؟
لكن من هي؟ من يمكن أن تكون؟ لحظة.. أيمكن أن تكون هي؟ همست مستغربة:
“كوثر؟”
“إنهما يحبان بعضهما مذ كانا صغيرين”
التفتت خلفي لأرى أن التوأمين تسيران ورائي و تجمعان التوت. أردفت سها:
“جهاد و كوثر ابنة عمي مقربان منذ الصغر، كيف يعقل أنك لم تلاحظي أماني؟”
همست و أنا شبه مصدومة:
“هـ.. هل.. كنتما تتبعانني؟”
أجابت سها:
“كلا.. أقصد.. كنا خائفتين أن تضلـّي طريقك”
بقيت أنظر إليهما بصدمة و أنا أشعر أن كل شيء فيّ يرتجف.. كان صدى كلماتهما يتردد في الفراغ الذي يملأ جوانحي.. لم أستطع الصمود أكثر فركضت مبتعدة عنهما و أنا أصرخ داخلي:
“مستحيل.. إنهما تكذبان.. لا يمكن أن يكون جهاد و كوثر مغرمين.. هما أبعد ما يكون عن بعضهما.. كل منهما له شخصية مختلفة تمام الاختلاف عن الآخر.. مستحيل”
لم أشعر بنفسي إلا و أنا أسقط على حافة منحدر لم أعرف من أين أتى و لا كيف وصلت إليه.. يبدو أنني توغلت كثيرا في الغابة دون أن أنتبه.. كل ما أذكره أنني صرخت طالبة النجدة:
“جهــــــــــــــــــــــــــــــــاد”
و أحسست بيد تمسك بمعصمي لتوقف انزلاقي المؤلم فوق الصخور و تجذبني إلى الأعلى. نظرت إلى الشخص الذي أمسكني و همست مندهشة:
“جهاد”
قطب جهاد حاجبيه و هو يجذبني نحوه و يقول بقلق:
“هل أنتِ بخير؟”
نظرت إليه مدة ثم أجبت و أنا أحاول القيام:
أجل أنا بخـ… آه”
شعرت بقدمي تؤلمني لدرجة أنني تمسكت بجهاد كيلا أقع، لكنني رفعت رأسي بتلقائية نحوه لأرى نظرات القلق في عينيه.. شعرت بالحزن لذلك، و انتابني غضب كبير حين تذكرت كلام سها و مها.. التقت عينانا في لحظة أحسست أنها أطول من أن تنتهي و سألت:
“كيف عثرت عليّ؟”
لم تختف النظرات القلقة من عينيه حين أجاب:
“كنت أتجول في الأرجاء حين سمعتك تصرخين”
أنزلت رأسي حين تذكرت أنني صرخت منادية باسمه حين وقعت.. و سمعته يضيف:
“أعادني صراخك باسمي إلى تلك الأيام التي كنت تقعين فيها في المشاكل فتطلبين نجدتي”
نظرت إليه فوجدته يرسم ابتسامة رائعة على محياه، تدافعت الأحداث في رأسي بقوة و اختلطت عليّ كل أنواع المشاعر و لم أمنع نفسي من الاندفاع نحوه لأدفن وجهي في صدره، تعلقت به كطفلة صغيرة و رحت أبكي بشدة، كانت شهقاتي متتالية و مسموعة و شعرت بذراعي جهاد تحيطان بي و تضمانني إليه بقوة و هو يقول بهدوء:
“لا عليك يا أماني.. أنا معك، لا تخافي من شيء يا صغيرتي”
بثـّت كلماته دفئا غريبا في روحي و بعثت الطمأنينة في نفسي فاستكنت إليه و بدأ بكائي يخفّ تدريجيا و كأنني أزحت عن كاهلي حملا عظيما. كل ذلك التجاهل طيلة أعوام جعلني أشعر بالتعب و الإرهاق، لكنني شعرت بجزء كبير منه ينزاح حين بكيت الآن.
فجأة طرق كلام أمي ذهني بقوة و تردد حولي ما سمعته من التوأمين قبل قليل و أدركت أنني عدت إلى الواقع، و يا ليتني لم أعد، فقد ابتعدت بسرعة عن جهاد بطريقة أفزعته فقال:
“ماذا هناك أماني؟”
خطوت إلى الخلف متجاهلة ألم قدمي و قلت:
“شكرا على مساعدتي.. و اعذرني على تصرفي الطائش”
استدرت لأذهب و أضفت:
“ستقلق أمي إن لم أعد الآن”
“لقد تغيرت أماني.. ما الذي جرى لك خلال غيابي؟”
لم أستطع الإجابة و أنا أحس بكل كلمة من كلماته تطعنني لتوقظ ما قد نام من جروحي، توقفت قليلا و قلت دون أن أستدير نحوه:
“أعذرني جهاد لا يمكنني فعل شيء.. الكل يتغير”
صمتت قليلا ثم تابعت بكل البرودة التي أملك:
“أتمنى لك السعادة مع كوثر.. حقا”
ركضت مبتعدة عن المكان بأقصى سرعة أدركتها و نسيت تماما أن قدمي تؤلمني، و بعد لحظات كنت مع الفتاتين في أعلى التل، حيث ساعدتاني على تنظيف ملابسي و جرحي و جلستا دون أن تتحدثا على غير عادتهما، ربما لأنها قدّرتا الوجه الفزع و الملامح الحزينة التي رأتاني بها حين خرجت راكضة من الغابة.
بعد مدة قدّمت لي مها كيسا مليئا بالتوت البري و قالت:
“تفضلي، يمكنك أن تأخذي هذا لجهاد لأنك لم تتمكني من جمع المزيد”
نظرت إليهما فوجدتهما تتطلعان إلي بأسى و كأنهما نادمتان، و بالفعل قالت سها:
“نحن آسفتان إن ضايقناك بكلامنا قبل قليل”
هززت رأسي بأن لا بأس فابتسمتا تلقائيا.. قالت مها:
“من حسن حظك أنك متعودة على الغابة و إلا فلم تكوني لتتمكني من العودة وحدك بعد السقوط من الجرف”
ابتسمت بمرارة و أنا أتذكر ما حدث فعلا، لقد نسيت تعوّدي على الغابة، خاصة في حالتي النفسية تلك، و لولا قدوم جهاد في الوقت المناسب لما علمت ما قد يحدث لي.
تكلمت سها مازحة بمرح كي تنسيني الألم ربما:
“إذن، هل ستعترفين أنك… تحبين أخي؟”
نظرت إليها شقيقتها بتحذير فلم تأبه لها و تابعت:
“هيا أماني، نحن أختاك، هيا أخبرينا”
رفعت أحد حاجبيها و تابعت بمشاكسة:
“رغم كل شيء.. أخي وسيم و لا يُقاوم”
ضربتها مها بخفة على كتفها و قالت معاتبة:
“توقفي عن إزعاجها سها”
سرحت كثيرا فيما يحصل و فكرت.. هل هذا حقيقي؟ هل أحب جهاد حقا؟ لطالما كانت تقفز هذه الفكرة إلى رأسي لكنني أسارع إلى طمسها، لكنها تلحّ عليّ هذه المرة و لا ترغب في مفارقتي. حتى لو كان ذلك صحيحا، وأتمنى ألا يكون، فأنا لا أريد أن أعترف بحبه حتى لو كان ذلك بيني و بين نفسي. سيؤذيني الأمر أكثر مما أنا عليه الآن إن فعلت، لأنه سيجعلني أستسلم.. أستسلم لعدة أمور.. سأستسلم لحبه، لاستحالة مصيرنا معا، لكونه يحب أخرى، سأستسلم للألم و العذاب و سيرهقني ذلك، سيقودني إلى حتفي إن لم أقاومه.
و حتى لو اعترفت بأني أحبه، لا يمكنني أن أقول ذلك لأي شخص، لا يمكنني السماح لأي أحد أن يعرف ذلك قبله.. قبل جهاد، لأنه الوحيد الذي يستحق أن ينتزع مني اعترافا.
لكن ما الفائدة من كل تفكيري ما دمت لا أستطيع أن أبقى معه، أحب أمي، و لا يمكنني جرح مشاعرها أو إيلامها إن غضضت الطرف عما تريده و تعلقت بأنانيتي و رفضت مطلبها. فأنا متأكدة أنها لم تطلب مني الابتعاد عن جهاد إلا لأنها تحبني، إلا لأنها تحبنا كلينا.
حاولت أخيرا فعل ما اقتنعت به و قلت للفتاتين بعدما أخذت نفسا عميقا:
“أحب جهاد، لكن ليس كما تتصوران… أنا و جهاد نشأنا معا و لعبنا معا.. عشنا معا لسنوات كأخوين… و مازلنا كذلك.. و لقاؤنا بعد كل هذه السنوات لا يغير شيئا، صدقا”
أضفت بهمس:
“جهاد أخي مثلما هو أخوكما”
نظرت إليّ الفتاتان مستغربتين من تناقضي على الأرجح، لكنهما لم تحصلا على فرصة للاعتراض أو طرح المزيد من الأسئلة، فقد نهضت مسرعة و قلت:
“هيا، سنغادر. سها أخبري أمي أنني عدت للمنزل ولا تخبريها شيئا عن سقوطي، مها رافقيني”
استدرت لأذهب و فوجئت برؤية جهاد واقفا أمامي، و من ملامحه كان يبدو أنه استمع إلى كل حديثنا. شعرت بالخوف من نظراته و مع هذا فقد أحسست ببعض الارتياح لأنني استطعت حسم أمري و قراري.
نظرت إليه قليلا لكنني لم ألبث أن قلت و أنا أسير أسفل التل:
“هيا يا بنات.. لنذهب”
انتهى الجزء الثاني
انتظروني بإذن الله في الجزء الثالث تحت عنوان:
“الاعتراف.. تورد الشفق أم الأصيل”
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
في أمان الله
نفحات من حياتي (1)
السلام عليكم ورحمة الله
هذه القصة كتبتها قبل مدة عام 2011 و كنت أظن أنها من الأشياء التي لا يجب أن تنشر في العلن
ظننت يوما أنها خاصة بي و لذلك لم أجعل أحدا يقرؤها سوى أصدقائي المقربين، و قلة أخرى
لكن الآن أظن الوقت قد حان لنشرها و بدل الاحتفاظ بها..
فقد تكون سبيلا لدخول النور إلى بعض العتمة التي احتلت زوايا حياة…
لم أعد أعرف كيف أسميها.
هذه القصة عزيزة جدا على قلبي و لا أظن أن قصة أخرى سأكتبها ستحتل نفس المكانة التي احتلتها هذه “العزيزة”..
مع أنها لا تصل لربع مستوى الكتاب الذين أعشقهم و أتخذهم قدوة لي إلا أنني أفتخر بها كثيرا لعدة أسباب و أحبها.. و أرجو أن أستطيع إيصال بعض من حبي لها إلى قلوبكم..
لا يمكنني تسميتها رواية لأنها ليس بذلك الطول.. كما أنني سأقسمها على تدوينات متفرقة مرفقة بأرقام الأجزاء.
يبدو أنني أكثرت الثرثرة.. لذلك عذرا و تفضلوا معي إلى عتبات:
“نفحات من حياتي”
_________________________
نفحات من حياتي: الجزء الأول
“اللقاء الاثير.. عودة من سبات الماضي”
*** *** *** *** ***
لم أعد أحسب الوقت.. منذ مدة طويلة توقفت عن الإحساس بما حولي.. لست أدري تماما ما الذي يجري خارج هذه الجدران.. و ما الذي سيهمني مما يجري مادمت أعرف أن ما أبحث عنه غير موجود.. لن أسعد و لن أحزن لأي خبر بعد الآن.
~ ~ ~ ~ ~
أذكر جيدا ذلك اليوم الذي حمل لي في أعطافه كل متناقضات الكون، و لم أعرف إن كان يجدر بي مدّ يدي أنا أيضا لكني مددتها نحوه و صافحته متجاهلة كل الأعين المتوجهة نحونا، و كأنني كنت وحيدة مع ذلك الكف الدافئ الذي ضم يدي.
“كيف حالك سيدي؟ مضى وقت طويل”
لم يجب بل ابتسم فقط، ابتسم ليجعلني أسمع كل الإجابات الممكنة. ابتسمت أنا أيضا و لم يكن يهمني ما سيجرّه عليّ تصرفي الأهوج، لم أكترث لأني كنت سعيدة جدا لحظتها و لم أشأ أن أفسد فرحتي.
“أهلا بك مجددا في بيتنا آنستي.. أظنهم اهتموا بك جيدا، أليس كذلك؟”
هززت رأسي إيجابا فابتسم مردفا:
“إذن، أتمنى لك طيب المقام بيننا”
أفلت يدي و انسحب بهدوء عاصف تماما كما دخل، أما أنا فقد بقيت أقبض على يدي بقوة و كأنني خائفة من أن ينفلت منها كل ذلك الدفء الذي أحاط بها منذ لحظة. لم أكن أجيب على معظم أسئلة الخالة، بينما كانت ثرثرة الفتاتين تبدو صادرة من مكان آخر إذ لم أكن أفهم منها شيئا.
استأذنتنا المرأة بعد لحظات لأبقى وحدي مع الفتاتين. حينها همست سها مبتسمة بمكر:
“يبدو أن أخي معجب بك أماني”
جفلت قليلا و أنا أنظر إليها باستغراب بينما عقبت مها:
“سها على حق.. لم أر جهاد يمسك بيد فتاة كل ذلك الوقت، و يكلمها بكل تلك اللباقة”
ضحكت بارتباك لأدفع التهمة عن نفسي:
“كلا، لا أؤيدكما، أنا و جهاد نعرف بعضنا مذ كنا أطفالا، و لهذا السبب فهو يكلمني بلباقة.. من المضحك أن يكون ما تقولانه صحيحا”
هزت التوأمان رأسيهما نفيا و على وجههما نفس الابتسامة الماكرة و قالت مها:
“و لهذا السبب نقول هذا، فأخي لا تعجبه أي فتاة”
تابعت سها:
“هو دائما يقول أنه لن يمنح حبه إلا لمن يعرفها جيدا و تستحق احترامه”
أحسست بوجهي يتضرّج خجلا و لم أعرف ما أجيب به هاتين الماكرتين الصغيرتين، يبدو أن هوايتهما في إقحام الآخرين في مواقف محرجة لم تتغير قط، و مع أنني كنت قادرة على دفعهما برد مناسب إلا أنني لم أرغب في فعل ذلك. نظرت إلى يدي اليمنى مطولا و طاف خيالي إلى تلك الملامح التي لم أرها منذ سبع سنوات تقريبا،منذ كنت في الثالثة عشر. لقد تغير كثيرا، صار أكثر وسامة. و أحسست بالخجل مرة أخرى للتفكير فيه، و قفز كلام أمي إلى ذهني مجددا: “إياك و التفكير في أي انحناء آخر لعلاقتك بجهاد.. جهاد أخوك، لطالما كان و سيبقى كذلك”.
سمعت صوتا مألوفا أخرجني من دوامة ذكرياتي:
“آه، وصلتِ أخيرا”
نهضت من مكاني مسرعة و قفزت محتضنة أمي بسعادة بالغة، لم أرها منذ شهر، فقد كنت مرغمة على البقاء في المدينة كي أكمل سنتي الدراسية بينما مكثت أمي في منزل السيد عبد العزيز والد جهاد لتبتعد قليلا عن ضوضاء المدينة كما نصحها الطبيب مؤخرا. و ها أنا ذي ألحق بها بعدما أنهيت امتحاناتي كما وعدت.
“أمي.. اشتقت لك كثيرا”
عانقتني أمي بدورها و قالت و هي تقبلني:
“كيف كانت رحلتك؟ لا بد أنك متعبة”
نفيت تعبي بإشارة من رأسي مع أن التعب كان يأكل جسدي أكلا، إلا أنني كنت أريد قضاء بقية الأمسية مع العائلة.
تكلمت سها بتسرع كعادتها:
“لقد عرضنا عليها صباحا أن يوصلها جهاد من المحطة لكنها رفضت”
حدجتني أمي بنظرة محذرة فأجبت بهدوء:
“لقد كانت لديّ بعض الأشغال لأقضيها قبل المجيء إلى المنزل و كنت سأرهقه معي في كل ذلك اللف و الدوران”
أبعدت أمي نظراتها إلى الفتاتين و ابتسمت تتحدث معهما بينما ذهبت أنا إلى الغرفة المجهّزة لي. كانت غرفة في الطابق الأرضي، فلم أكن أحب السلالم على أية حال و كانت السيدة عفاف والدة جهاد تعرف هذا. استحممت و غيّرت ملابسي و خرجت إلى الحديقة لأجلس مع أمي و التوأمين و والدتهما.
مرّ المساء سريعا كنت فيه طول الوقت منشغلة في الإجابة عن أسئلة أمي و الخالة عفاف عن الجامعة و أحوال المدينة في الشهر الأخير، و كان امتعاض الفتاتين واضحا بسبب استحواذ المرأتين على الحديث.
انضمّ إلينا جهاد على مائدة العشاء و لم يكن الأمر جيدا بالنسبة لي فقد رغبت بشدة في الانسحاب كيلا أرى نظرات أمي الملتهبة و لا نظرات جهاد المبهمة. لم أكن أرغب في إحياء العواطف القديمة التي جاهدت كثيرا لإخفائها و التخلص منها. أعلم أنني كنت مجرد مراهقة صغيرة منذ آخر مرّة التقينا فيها، لكن المشاعر الطفولية التي كنت أكنها له كبرت مع الوقت و خاصة عندما نهتني أمي عن التفكير فيه جديا، فمن عادتي أن أتعلـّق بالشيء أكثر عندما أُمنَع منه. و كأن أمي بتحذيرها لي قد أيقظت فيّ ما كان كامنا و نبّهتني إلى ما لم أكن أراه.
كنت قد نسيت أو بالأحرى تناسيت ما يمكن أن أكنه من عواطف لجهاد، و حاولت الابتعاد قدر الإمكان عن ذكره مع أن ذلك مستحيل لأنه يبقى قريبا من العائلة، فعائلتانا صديقتان منذ زمن و لا يمكنني منع ذكر اسمه أو جلب سيرته إلى المنزل. حتى أمي التي تمنعني من التفكير فيه، لا تنفكّ تتكلمعنه و تذكر محاسنه. كان صعبا عليّ أن أنسى أنه لا يزال موجودا لكنني تمكنت أخيرا من طمر كل ذكرياتي عنه و دفنتها في القاع المظلم لقلبي حيث لا سبيل إلى نبشها.
كانت وجهة نظر أمي مجحفة بالنسبة لي لكنها منطقية إن أعدت التفكير، فهي تقول دائما أن الزيجات تفرق بين العائلات. لذلك لم تكن ترغب في أن تفرق علاقة عاطفية ما العلاقة الجيدة بين أسرتنا و أسرة جهاد لأنهما صديقتان منذ زمن كون أمي و الخالة عفاف أختان بالرضاعة، و من يدري فلربما كانت تلك أيضا وجهة نظر السيدة عفاف.
أعادني صوت أمي إلى الواقع بسؤالها لجهاد:
“إذن جهاد، كيف حال العمل معك؟”
استغربت سؤال أمي هذا فلماذا قد تسأله هذا السؤال وهي هنا منذ شهر؟ بقيت أرمي نظراتي فوق طبق الأكل لكن تركيزي انصب على ما سيقول فقد كنت أنا أيضا أرغب في سماع الإجابة إذ أنني لم أعرف أي خبر عنه منذ ثلاث سنين تقريبا بسبب انسحابي من المكان كلما سمعت أفراد أسرتي يتحدّثون عنه.. و سمعته يجيب بهدوء:
“لا يترك لي العمل حتى فرصة البقاء في المنزل.. كما ترين، لم أرجع من سفري سوى البارحة”
رفعت رأسي أنظر إليه باندهاش لافتة نظر الجميع إليّ، لكنني عدت لأخفضه و تابعت أكلي بتجاهل، و قالت أمي:
“أنت هكذا منذ سنتين، عليك أن تعود إلى وطنك لتستقر فيه”
أردفت الخالة عفاف بامتعاض:
“معك حق يا هالة، لقد تعبت من إخباره بهذا”
ابتسم جهاد بنفس الهدوء و أجاب:
“لا عليكما يا عزيزتيّ.. أخبرتكما أنني سأنهي عقدي و أعود بإذن الله، ليس لدي ما يربطني بالخارج”
ابتسمت والدته بارتياح و تغير مجرى الحديث إلى كل جانب و كنت الوحيدة التي لم تنطق بكلمة طيلة الوقت خاصة مع نظرات جهاد التي لم تفارقني فكنت أحس أنها تلفحني لفحا.
و اضطررت للاعتذار قبل أن ينتهي العشاء حتى لا أتعرض للإجهاد أكثر مما أنا فيه. و توجهت رأسا إلى غرفتي متجنبة الجميع. بعد لحظات طـُرِق الباب و أطلت التوأمان من خلفه مبتسمتين كالعادة و قالتا معا:
“مرحبا”
لم أكن قد ارتديت ملابس النوم بعد بل جلست على حافة السرير و رأسي بين يدي و لم أرفعه إلا حينما رأيتهما. قالت مها:
“ألم تنامي بعد؟”
و تابعت سها:
“خفنا أن نزعجك”
ابتسمت و طلبت منهما الدخول فأسرعتا بالجلوس إلى جانبي و بادرت سها:
“أردنا أن نخبرك أننا سنخرج في نزهة إلى التلال غدا”
تابعت مها بمرح:
“هل سترافقيننا؟”
سألتهما باهتمام:
“و من سيرافقنا؟”
“أمي و أمك”
أحسست ببعض الإحباط لأن جهاد لن يكون حاضرا لكن سرعان ما لمت نفسي على التفكير فيه و ابتسمت للشقيقتين:
“بالطبع سأذهب إن شاء الله”
قامت الفتاتان لتخرجا و قالت مها:
“حسنا سنتركك لتنامي، لا بد أنك متعبة”
أردفت سها و هي تتبع أختها نحو الباب:
“كما أن عليك الاستيقاظ باكرا لتذهبي معنا غدا”
“و إلى أين ستذهبون؟”
وصل ذلك الصوت الهادئ إلى مسامعي كجرس إنذار جعل قلبي يخفق بشدّة فرفعت رأسي مسرعة نحو الباب و هتفت:
“جهاد!”
سألت التوأمان معا:
“ماذا تفعل هنا؟”
أجاب و هو ينظر إلى طرف الرواق:
“جئت إلى مكتبي لأنهي بعض العمل”
نظرت إليه سها بشك رافعة أحد حاجبيها:
“ليس من عادتك العمل في مكتبك في الليل”
رد جهاد ممسكا إياها من وجنتيها:
“و ما شأنك أنت أيتها المشاكسة؟”
ثم مدّ كلتا يديه نحو الفتاتين و أخرجهما من الغرفة قائلا:
“و أيضا.. ألم تحذركما أمي من إزعاج أماني؟ هيا إلى غرفتيكما حالا”
و دفعهما ممازحا خارج الغرفة و ما إن صارتا في الرواق حتى انفجرتا ضحكا و غادرتا المكان. أما أنا فقلت بعتاب لطيف:
“كانتا تطلبان مني الخروج في نزهة إلى التلال غدا، لم طردتهما؟”
ضحك جهاد و أجاب:
“لا تخافي هما متعودتان عليّ.. ولو لم أفعل هذا لبقيتا معك إلى منتصف الليل”
ضحكت بخفة على كلامه لكنني صمتّ محرجة حين رأيته يحدق إليّ، فقلت بخجل:
“إنهما رائعتان”
أجاب:
“أجل.. و لا تكفـّان عن الكلام أيضا.. تذكرانني بشخص ما حين كان في سنهما”
ضحكت حين انتبهت أنه يقصدني بكلامه، فتماما كما قال، عندما كنت في الثالثة عشر مثل التوأمين كنت لا أكف عن الكلام.
قال بصوت عميق:
“أمازلت تذكرين تلك الأيام؟”
أومأت بالإيجاب فتابع:
“لقد مضى وقت طويل.. صرت شابة الآن”
ابتسمت بخجل و أجبت:
“و أنت أيضا سيدي”
اعترض مسرعا:
“أرجوك لا تناديني سيدي مجددا، أشعر أنني مسن بهذا اللقب، كما أنني لست بغريب، أليس كذلك؟”
ضحكت على كلامه و أومأت موافقة، و مرّت بعدها لحظة صمت طويلة بيننا إلى أن قال:
“حسنا، سأذهب إلى مكتبي، تصبحين على خير”
و توجه نحو الباب فرددت:
“تصبح على خير”
خرج من الغرفة، و قبل أن يغلق الباب أضاف:
“مكتبي في آخر الرواق على جهة اليمين، سأكون هنا حتى ساعة متأخرة، إن احتجت شيئا فأنا في الخدمة”
“شكرا”
قلت باقتضاب و سارعت إلى إغلاق الباب خلفه و اتكأت عليه و أنا ألهث بشدة و كأنني سقطت من مرتفع سحيق.
ارتديت ملابس النوم و استلقيت بتعب على السرير و أنا أفكر في جهاد، و لازمني الأرق إلى أن سمعته يغلق باب مكتبه و يمشي في الرواق صاعدا إلى غرفته و عندما تأكدت أنه لم يعد بالجوار استسلمت للنوم ببعض الراحة.
هنا يتوقف الجزء الأول من القصة، أتمنى أن ينال إعجابكم، و ستكون البقية فيما بعد بإذن الله
انتظروني في الجزء الثاني بعنوان
“حنين.. منعطف في طريق القدر”
سلام ^^